فيرناندو بيسوا، صاحب كتاب (اللا طمأنينة) والذي يجعلك بقراءته مشكّكاً في كل شيء، تنظر إلى الأشياء نظرة المستريب المتخوّف، في أحد كتاباته يقول: ” من نفس المكان يضجر الناس، وأنا من وجودي في ذاتي أليس خليقاً بيِ أن أضجر ؟ “

هناك هي المشكلة، في هذا الضجر وذاك الملل الذي يجعلك في اصطدام مع أصل وجودك في الحياة. لاحظ أننا هنا لا نتحدّث عن ظروف حياتية لو تغيّرت تغيّر موقفك من الحياة، لا.. أتحدّث هنا عن إدراكك بأن المشكلة هي في أنك موجود أصلاً.

هذا تماماً ما أشعر به، مللتُ، مللتُ من كل شيء، من المحاولات الحثيثة لأقنع نفسي بأن شمعات الأمل التي أوقدها لن تنطفئ سريعاً؛ وأن النهار سيأتي بشيءٍ غيرَ النهار. مللتُ، من لحظات الانتظار التي ترافقها قصص النهايات السعيدة؛ تربت على الكتف وتخبركَ أنها في مخيّلتك المريضة فقط، فقط.

حزينٌ أنتَ أكثر مما ينبغي لمثلك. تفكّر في أن تُنهي حياتك. ليكن ذلك، تبدو هذه الحياة فارغة تماماً. ولكنك في يومٍ ما.. كنتَ قد وعدت نفسك أنك لن تُقدِمَ على هذا حتى تتأكّد أنك أشبعت عطش روحك إلى الجمال، أنت مدين لها بهذا. لا بد أن تكمل ما بدأته، أن تحيا أولاً قبل أن تموت. أن تموت موتَ الزاهد في ما بين يديه. لا موتَ اليائس الهارب. وهكذا. شيءٌ ما في حياتك شوّهك، شيءٌ ما في روحَك أُصيب بالعطب.. لا أنت حيٌّ ولا أنت ميت. في المنتصف دائما.

تحتاج دائماً أن تذكّر نفسك أنكَ لستَ إلهاً، أنك لا تستطيع أن تمسح كل دمعةٍ في أعين الآخرين تراها. أن تمدّ يداً لمن تكون بجوارهم. وبمثالية الأنبياء ستحرص أن تعامل الناس كما تُحِب أن تُعامَل، لكنّك تُفاجأ بكفرهم بك. أنّهم وجدوك وفقدتهم. ستُحاوِلُ مُصِراً، ولكنك في لحظةٍ ما، ستدرك أيها النبيه الحريص أنكَ وحدَك. وأن قلبك تيبّس، لأنه أضعف من أن يظلّ نابضاً بالحياة.

كنتُ أريد أن أقول أنني حزينٌ، أنني بائسٌ جداً هذه اللحظة. لا أريد ذلك. لا أريدُ أن أُعطيَ لأحد ما فرصةَ أن يخبرني أن كل شيء سيكون على ما يرام، وأصدّقه. أريد أن يبقى سرّ هذا الحزنُ عميقاً في نفسي، وحده الفزعُ الذي في عينايَ يملكه؛ في صمتٍ بعيد عن فضول الناس. بهذه الطريقة أبني هالةً حولي لا يقتربُ منها أحد.

بدأت تفكر: الموت حرية؟ أهلاً بك، لن تموت، ولن تبدِّدَ ما بروحِك، بل ستحيا بائساً.

لطالما كنتُ أشعر بأنني متسامٍ على الأشياء. أنني خُلِقت لغايةٍ أكبر، ولهدفٍ أكبر. لطالما كنت أرى في الأفق البعيد أمراً لا أظن أن أحداً غيري يراه. أن أنظر نظرة المستريب الحَذِر لكل هذه الأشياء اليومية/ الصلات الاجتماعية/ الأحداث السياسية. أن أعدّها أشياءً تحيدُ بي عن ما كنتُ مُسيَّراً له. أشعرُ أنني أُعي عميقاً معنى الوصف الديني للحياة أنها “لا تعدلُ جناحَ بعوضةٍ”، أعيه لدرجةٍ تجعلهُ وعياً مقلوباً؛ فهو أصبح عندي وعيٌ بالتفاهة. يزداد باطِّراد مع الحساسيّة للألم المتفشِّي في الوجود. فلا يواسي ذلك الألم الإيمان بالغاية العُليا النبيلة، ولا تستطيع أن تصفهُ بأنه تافهٌ مُزيَّف.