من سنين وأنا أعوِّد نفسي على عادة أحبها، أن أخاطب دائماً الأشخاص الذين أتواصل معهم بأسمائهم، أعيد كتابة الاسم أكثر من مرة؛ في افتتاح المحادثة وفي وسط المحادثة؛ ومرات أيضاً بعد كاف المخاطَب (مثلاً: شكراً لك فلان) وفي نهاية السؤال، بدون مبالغة في ذلك تجعله يبدو أمراً غريباً. وأقصد بالاسم: الاسم الأول أو الاسم الذي يحب الطرف الآخر أن يُنادى به.

نحن بطبيعة الحال نشيّء بعضنا -نحوّل الإنسان لشيء- بطريقة مزعجة، مجرد معرفتي بك تتضمن منظومة كاملة من الأحكام النمطية والاختزال والتصنيف، عملية بسيطة يحتاجها الذهن للفهرسة، لأني أعرفك، فأنتَ في الصفحة ألِف وتحت التصنيف باء ومرتبطة بك الأحكام النمطية جيم ودال وهاء و..الخ.

كلنا ضحايا نظرة الآخرين لنا، وتعرف من تجربتك مع من اختزلوك ووضعوك في قفص من انطباعاتهم المستعجلة عنك، أنكَ لستَ هذه الأشياء وحسب، وربما تكون كلها مرفوضة أو خاطئة تماماً. أحياناً لن تُبالي وستنصرف، وأحياناً ستحاول جاهداً لإصلاح هذا الانطباع الذي تكوّن عنك بطريقة أو بأخرى, ربما تصل لدرجة حديثك مع نفسك في آخر الليل عن ما الذي يجب عليك فعله لخلق الانطباع الذي تريده عنك في الآخرين. أحياناً يصبح هذا الهوس بالفكرة المتكوّنة عنك لدى الآخرين؛ أمر يقلب حياتك إلى جحيم.

ولأنك مررت بهذا كله، تعرف أن الآخرين مرّوا به أيضاً، وتعرف أن هناك أمرٌ ما في طريقة تواصلنا ببعضنا يجب إصلاحه. أننا قد نرتكبُ أخطاءً فظيعة في حق الآخرين بالانطباعات المستعجلة عنهم. أحياناً تشعر أنك يجب أن تصرخ في وجه أحدهم: أنا لستُ مجرّد كذا وكذا، أنا لستُ مجرّد صاحب الوظيفة كذا، أنا لستُ الشخص الذي تربطه علاقةٌ ما بشخصٍ آخر تعرفه، أنا أشياء كثير من ضمنها -أو ليست من ضمنها- هذه الصفات كلها.

لكنّ الصراخ وحده لا يفيد كثيراً، وطرُق مقاومة اختزالنا لبعضنا تكاد تنفد، فالنظام الاقتصادي والمؤسسة الاجتماعية والحياة العملية اليومية كلها أسباب متراكمة تجعلنا بحاجة دائماً إلى السرعة في التصنيف وتوزيع الأدوار وتصنيف الشخص “المهم” من “الهامشي”، ليس هناك مُتّسعٌ من الوقتِ كي نقول أننا أكثر سمواً، أن لدينا ما يميزنا، أو أن لدينا أكثر مما يميّزنا، أنني فوق كل تلك الاعتبارات فردٌ يُخاطَب وإنسانٌ يستحق أن يُعرّف بغير ‘أشياء’ هي مجرّد جزء من حياته، تافهة أو مهمة؛ صادقة أو كاذبة.

أسماؤنا! لتكُن أسماؤنا هي دروع الوقاية التي نحملها أمام اختزال الناس لنا. فالاسم يُعرِّفك أنت كفرد، يُميزك عن غيرك، اسمك يُحيل إليك لا إلى آخرين، اسمك هو ما تحمله معك في كل مكان.

عندما أعيد كتابة اسمك في محادثة عادية، أو افتتح المحادثة بكتابة اسمك، أو لا أسألك مباشرةً عن عملك أو عن الشخص المشترك الذي نعرفه أنا وأنت، فأنا أخبرك أني أقاوم بشدة اختزالك في أشياء محددة، أنني من البقية الباقية على هذا الكوكب التي ترى أن هناك خللٌ فظيع في تواصلنا ببعضنا؛ وتحاول أن تتفادى هذا الخلَل. أنني أعترف ضمناً أنكَ أعمق بكثير من كل ما أعرفه عنك؛ فدائماً هناك المزيد عنك مما لا أعرفه. أنني، لستُ مثلهم، لا أوافق على أن أُعرِّفَك بمجرّد الروابط التي تربطني بك، أو موضوع المحادثة الذي يجري بيننا، أنني أخاطبك أنت، أنت الذي اسمك: فلان.

حتى ولو كانت العلاقة التي تربطنا هي علاقة “احترافية” مرتبطة بعمل وأمر مؤقت وحسب، سأتعامل معك بحسب هذه “الاحترافية” لكنّي أبداً لن أجرّدك من اسمك، و”الأخلاق الاحترافية” رغم أنها بحاجة إلى نقد -بل ربما هدم- جذري للغاية، لكنها متّسعة لقبول ذلك.

ورغم أن الجانب المبدئي والأخلاقي هو الأهم، لكن حتى من الناحية النفعية البحتة، تكرارك لاسم من تخاطبه أثناء مخاطبته -بطريقة غير مبالغ بها بالتأكيد- هي أمرٌ دائماً ما يُلاحَظ ويُعد تصرفاً لطيفاً ولبقاً. وعندما أقول أننا من الممكن أن نجعلها عادةً لنا؛ فلا أقصد أنها مجرّد عادة تجري على اللسان / الكيبورد أو القلم، بل يصبح المعنى المتضمّن من ورائها حاضراً و حياً، ويبتعد أكثر عن كونه تصنّعاً وتزييفاً ويقترب من كونه صادقاً وأصيلاً، متلائماً مع التصوُّر العام عن الذات البشريّة التي نجري عملية تواصل معها الآن، والتي نفهمها كثيراً لأننا تمكّنا إلى حدٍّ كبير من فهم أنفسنا قبل ذلك، وعزمنا على أن لا نكرّر معها الأخطاء التي ارتكبها الآخرون في حقنا.