Skip to content

Go back

العقلية الأمنية في مواجهة مسؤوليتها الأخلاقية

العقلية الأمنية في مواجهة مسؤوليتها الأخلاقية:

نُشِرَ في صحيفة التقرير الالكترونية، 30/04/2014.

( آسف لأنهم قُتِلوا، لكنهم كانوا في المكان الخطأ وفي الوقت الخطأ، ولا أظن قتلهم أمر يستوجب التحقيق فيه، أظن هذا الأمر هو من حوادث الحرب ). كانت هذه إجابة الجنرال هيو شيلتون، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأسبق بالولايات المتحدة الأمريكية، على الصّحفي الأمريكي جيرمي سكيل، عندما سأله عن عملية قتل (محمد داود) وأسرته في فبراير 2010، داود ضابط الشرطة الأفغاني الذي كان قد تدرّب سابقاً على يد القوات الأمريكية وخاض العديد من المعارك مع حكومة طالبان؛ ولم تقدّم القوات الأمريكية أي دليل يُدينه لا قبل ولا بعد عملية القتل.

قاسم الريمي، المتحدّث العسكري للقاعدة باليمن، في خطابه حول تفجيرات مستشفى “العرضي” التي أثارت ذعر الرأي العام في ديسمبر 2013، قال معلّقاً: (نحن لا نقاتل بهذه الطريقة ولا إلى هذا ندعو الناس وليس هذا منهجنا). ثم ذكر تشديدهم قبل العملية على التنبيه بعدم الدخول إلى المستشفى واستهداف وزارة الدفاع فقط قائلاً: (تنبه لذلك ثمانية من إخواننا ولم يتنبه أحد إخواننا رحمه الله وغفر له).

المنظّرة السياسية حنّة أرنت، والتي تقول عن نفسها (أمضيت سنوات كثيرة من عمري، بالتحديد: ثلاثين سنة، في دراسة الشر). ذهبت إلى القدس في عام 1961 وبعد أن اختطفت المخابرات الإسرائيلية من الأرجنتين أدولف ايخمان، ضابط القوات الخاصة الألمانية في العهد النازي، ذهبت أرنت لحضور محاكمته. وكتبت تقريرها المطوّل في مجلة (نيويوركر) ثم جمعته بإضافات في كتابها (ايخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشر). كانت النتائج التي كتبتها حنّة أرنت مثيرة للجدل في ذلك الوقت، بدءًا من العنوان الفرعي المستفز (تفاهة الشر) بينما ايخمان في أعين الرأي العام هو الوحش السادي والمسؤول المباشر عن معسكرات الاعتقال وإبادة الملايين. تصفه أرنت بقولها: (هو ببساطة، لم يفهم ما كان يقوم به.. لم يكن ايخمان غبياً، بل لم يكن واعياً -وهو ليس نفس الأمر-، وعدم وعيه وحده هو الذي مكّنه من أن يصبح أحد أهم المجرمين في عصره. وهذا تافه ومضحك أيضا، فلا يمكن لنا التوصل مهما كانت المجهودات، إلى اكتشاف أن في نفس ايخمان أي نية جهنمية بعمق أو إجرامية).

الشيء المشترك بين هذه الثلاث نماذج أن لكلّ منهم تبريره الذي يُريح ضميره الأخلاقي تجاه ما فعله، وإن كان ما فعله يبدو أمراً منافياً لأبسط المبادئ الأخلاقية بالنسبة للرأي العام؛ لكن هذا الأمر لا يُشغله كثيراً فالرأي العام مُضلَّل لا يعرف الكثير من الأمور. وعند القاعدة كان الأمر لا يستحق سوى الاعتذار عن أسلوب القتل، الأسلوب فقط.

نوع المبرّرات قد يختلف قليلا، فهي مبرّرات ما بين: عقيدة وطنيّة –عند الجنود الأمريكان- مؤمنة بما يسمى بالحرب على الإرهاب بالإضافة للإيمان بالتزام الأوامر وطاعة السُّلطة المُوجِّهَة، وموقف سياسي بخلفيّة دينية -عند القاعدة- يرى أن العنف المُسلّح هو الخيار الذي اضطرّته إليه سياسات الدُّوَل العربية والغربية ولو حدثت أخطاء هامشيّة، وموقف بيروقراطي -عند ايخمان- من طاعة السُّلطة وتوجيهات القائد بحيث يصف نفسه بأنه ليس أكثر من موظّف إداري لا يعنيه (سواءً كان على متن القطار -المتّجه لمراكز الإبادة- مرضى نفسيين أو مدراء بنوك، الأمر لا يخصّني) حسب عبارته.

تُعد تجربة ستانلي ميلجرام عام 1963 عن (طاعة السُّلطة) من أشهر تجارب علم النفس الاجتماعي التي سلّطت الضوء على قابليّة الإنسان -أي إنسان- لتحويل المسؤولية الأخلاقية إلى المُشرِف عليه ومن ألقى عليه الأوامر. كانت التجربة باختصار أن متطوّعين عاديّين -لم يكونوا على علمٍ حقيقي بموضوع التجربة- لم يمانعوا أن يزيدوا من قوة الصاعق الكهربائي ويسمعوا صراخ رجل آخر، لأن هذا الرجل الآخر أخطأ في الإجابة على الأسئلة، ولأن مُشرِف التجربة يأمرهم بذلك ويعدهم بأنهم لن يتحمّلوا أي مسؤولية.

وفي تفسير ذلك طرح ميلجرام نظريّتان: 1- نظريّة الامتثال: والتي تُحيل إلى العلاقة الأساسية بين مجموعة من المرجعيات والشخص، فالفرد الذي لا يملك القدرات أو الخبرات اللازمة لاتخاذ القرارات، سيترك للمجموعة من خلال تراتبها الهرمي اتّخاذ القرارات نيابةً عنه. 2- نظريّة الدولة البديلة: حيث أن جوهر الطاعة يتشكّل عبر رؤية الأفراد لذواتهم بوصفهم أدوات لتحقيق رغبات أشخاص آخرين، لذلك فهم غير مسؤولين عن أفعالهم، ولحظة حصول هذا التحول الحاسم في نظرة الفرد تجاه نفسه ومسؤوليته، تتابع كل المظاهر اللاحقة للطاعة.

هل الخطورة في هذا الأمر تُعَد خاصّة برجل الأمن أم أنها تشمل غيرهم أيضاً ممن يحتلّون مناصب إدارية واقتصادية؟ الأفكار المطروحة هنا أكثر شمولاً من أن يتم تحديدها بتفسير سلوك رجل الأمن وحسب، لكنّ تجلّياتها عند رجل الأمن هي بلا شك أكثر وضوحاً لسبَبين:

السبب الأول: أن رجل الأمن هو عادةً أكثر الأشخاص المعرّضين لمواقف مباشرة وامتحانات واقعية تُسائل ضميره الأخلاقي. هو من يرمي القنابل المسيلة للدموع في وجوه المتظاهرين، وهو من يرفع السّلاح أمام المدنيّين المحتجّين السلميّين، وهو من يُقيّد ويعتقل وهو من يُعذِّب في الزنازين لانتزاع الاعترافات. هو من يُباشِر تنفيذ ما تُمليه عليه السُّلطة أو ما يحدّثه به حسّه الأمني. في نفس الوقت الذي نقول فيه: هو من يُواجه أعتى المجرمين واللُّصوص وهو من يُعرِّض نفسه للخطر في عملية القبض عليهم وتقديمهم للعدالة. وهو من يستند عليه الجميع عندما يمسّهم خطر.

والسبب الثاني: يتعلّق بطبيعة البيروقراطية العسكرية. فكما يُلاحظ أحمد إبراهيم خضر، مؤلّف كتاب: علم الاجتماع العسكري، أن النسق العسكري يعتبر (نسقاً اجتماعياً متدرّجاً بدقة. ويبلغ في إحكام تقسيماته الهرميّة درجة أعلى من تلك التي تلاحظها بين الطبقات والفئات التي تقوم في تكوينها على الفواصل الاجتماعية والاقتصادية الحادة). فالنّسق العسكري يُعد بيروقراطياً أكثر من أي تنظيم آخر، (إذ اعتبره الباحثون النموذج الأصلي لها من حيث تفويضه الدقيق للمسؤولية وتوزيعه للامتيازات على من يشغلون أوضاعا معيّنة في التدرج الهرمي).

تُعَد هذه البيروقراطية، هي التي جعلت رجُل مثل أدولف ايخمان -وهو المسؤول عن إبادة الملايين تنفيذاً للأوامر- يقول (أنا لا أفهم سوى لغة الإدارة). وهي ما جعلته يقول (طاعة الأوامر هي الشيء الأكثر أهمّيةً لي).

هل من سبيل إلى أن يستشعر رجل الأمن دائماً، مسؤوليته الأخلاقية تجاه ما يُطلَب منه؟ وكيف يمكن تحقيق ذلك في ظل النسق العسكري الذي يتطلّب طاعةً غير محدودة ويحظر مسائلة الأوامر؟ لا تُوجد حلول نهائية، لكن الوعي بالمشكلة هو دائماً يُعد أول خطوة.