Skip to content

Go back

السخرية بوصفها مقاومة سياسية

السخرية بوصفها مقاومة سياسية

نُشِرَ في صحيفة التقرير الالكترونية، 16/06/2014.

كان التفكير الفلسفي في ماهية «الكوميدي» منذ القدم، ومنذ سقراط، المشهور هو نفسه بالتهكم، كان أول مَن لاحظ هذا التشابه الذي يقع أحيانًا بين الكوميدي والتراجيدي. هذا التشابه الذي جعل الكاتب الأمريكي الساخر جيمس ثيربر يرى أن أقرب شيء إلى الفكاهة، هو المأساة. بهذا الارتباط بين الكوميدي والتراجيدي؛ كانتَ السخريةُ دائمًا فعلَ تمرد؛ بحيث تتيح للموقف الجاد أن يجد مكانه في قلب الموقف الساخر، مضحكًا ومبكيًا في آن معًا.

في السخرية يظهر الإنسان عبقرية الترميز لديه، الرموز التي يصنعها ليجعلها تحمل الرأي الحقيقي الذي يريد أن يقوله، أو تضع يدها على مواضع ما ينبغي تصحيحه. فيلجأ إلى هذا «الترميز»، إلى تغليف رأيه بأقنعة لغوية أو كاريكتارية أو أي شكل من الأشكال، عبر ذكائه في استغلال المُتاح لاختراق الغير مُتاح، توظيف المسموح للنفاذ إلى المناطق المحرّمة الممنوعة. والهدف من هذا دائمًا إحراج السلطة التي وسّعت من مساحة الممنوع وتحرّم مساءلتها والحديث حول ما يمسها ويبرر قراراتها، كانت هذه السلطة متشكّلة على أساس قوة سياسية أو طبقيّة أو اجتماعية أو دينية. ومن هنا، فالسخرية لا تتضمن فقط إتاحة المساحة الكافية للمكبوت أن يظهر ويقاوم الضغوطات الخارجية، بل تتضمن أيضًا ذكاءً في الشكل الذي تظهر به.

وحيث إن شبكة العلاقات التي تنشأ في كل مجتمع تتفشّى فيها «السُّلطة» بشكل خفي وظاهر، فلا شكّ أن أنواعًا من السُّخرية المضادّة لها كثيرة ومتنوّعة جدًّا. وبعض أنواع السخرية الموجّهة للذات وللإنسان نفسه، هي لغرض السخرية نفسه والضحك لا أكثر. ولكن ما أريد الحديث عنه هنا هو نمط آخر مختلف، وهو «السخرية السياسية».

أوّل ما يميّز «السخرية السياسية» أنها موجّهة سياسيًّا. فهي تختلف عن السخرية المقصود بها إضحاك الناس والتندُّر اليومي على الأحوال المعيشية. ومن هنا، يعلّق الأديب غسان كنفاني على هذا النمَط من السخرية بأنه ليس «تنكيتًا ساذجًا على مظاهر الأشياء، ولكنها تشبه نوعًا خاصًّا من التحليل العميق». فهي تحمل مضمونًا يتعلّق بالنظام القائم والسياسة الواقعة في بلد أو آخر.

وثاني ما يميّز «السخرية السياسية» أنها أكثر حريّة. ورغم أن نظريّة فرويد في الضحك والسخرية معرّضة لكثير من الانتقادات، على أن وصفه للنكتة يبدو دقيقًا جدًّا عندما يصفها بأنها «تتفادى القيود، وتتخطّى العقبات، وتفتح في وجهنا أبوابًا للبهجة كانت موصدة دوننا. فهي تتيح لنا استغلال ظاهرة مضحكة في خصمنا لا نقوى على كشفها جادّين متعمّدين لما يعترض سبيلنا من عقبات».

وثالث ما يميّز «السخرية السياسية» أنها أكثر أمانًا. فهي متخفّية ومن الصعب محاصرتها سواء محاصرة وسيلة تداولها أو محاسبة مضمونها. فهي تسعى لأن يبقى ظاهرها الذي يمكن المحاسبة عليه في إطار القانون المسموح به. فهي «النص المفتوح» بلغة رولان بارت، القابلة للتأويل في أكثر من اتّجاه بحسب المتلقّي، مع ملاحظة أن «النص» هنا بالمعنى العام وليس الشكل الذي قد تتّخذه.

ورابع ما يميّز «السخرية السياسية» أنها تخلُق شعورًا بالوحدة بين من يتداولها. يأتي هذا الشعور نتيجة أنها أكثر أمانًا. فطالما هي تسير في إطار المُتاح، هناك قابليّة أكثر لتداولها في الوسط الذي يؤمن بمضمونها ويفهمه في نفس الوقت الذي يريد أن يسلُك فيه طريقًا لا يعرّضه لخطر العقاب ومخالفة القانون. وعادةً ما تكون هذه الشريحة هي الأوسع. يعزّز من تضامنهم تداولهم واتفاقهم على نفس المضمون رغم سائر الاختلافات التي بينهم. ولأن «السخرية السياسية» تمسّ علاقة الحكّام أو أصحاب السُّلطة بالمحكومين؛ فهي بالضرورة تخلُق هذا التباين وتجعل الحاجة إلى توحُّد القوى في الحلقة «الأضعف» أكثر وضوحًا.

يحمل التراث العربي نماذجَ كثيرةً من السخرية السياسية؛ فالكثير من النكت المنسوجة حول «جحا» مرتبطة بتيمورلنك الحاكم المغولي، كما يلاحظ ذلك خالد القشطيني الذي جمع الكثير من نماذج السخرية السياسية في كتابه «السخرية السياسية العربية» المطبوع عام 1988، استقراءً لنماذج السخرية في التراث ووصولًا إلى التاريخ العربي في القرن العشرين.

مصر من بين البلدان العربيّة هي الأكثر شهرةً باتّخاذ هذا النمط من السخرية. ومما لاحظه الشاعر المصري كامل الشناوي قديمًا أن النكتة كانت «هي السلاح السري الهدام الذي استخدمه المصريون ضد الغزاة وقوى الاحتلال، كانت المخرّب الذي خرق قصور الحكّام واقتحم حصون الطغاة، فأقلق راحتهم وملأ قلوبهم رعبًا».

وفي محاولته لتفسير حب المصري للنكتة، يحيل السبب المفكّر المصري عبد الوهاب المسيري إلى «التجربة التاريخية الطويلة التي جعلت المصري يعيش كثيرًا من التناقضات ولحظات الانتصار والانكسار ويشعر بالقوة والعجز». الأمر الذي جعل المصري «قادرًا على تطوير رؤية فلسفية قادرة على تقبل التناقضات وتجاوزها من خلال النكتة. وإن كان هذا لا ينفي أيضًا مقدرته على التجاوز من خلال الثورة».

وهنا، لا بدّ من ملاحظة أن استطراد المسيري الأخير حول أن النكتة لا تنفي قدرة المجتمع على تجاوز الأزمات بالثورة، استطراد مهم جدًّا. فحتى لا نُبالغ بتقدير دور السخرية في المقاومة، فهي شيء مختلف عن الحَراك الاجتماعي والشعبي. وإن كانت عاملًا لا يتجزّأ منه. السخرية توفّر حيزًا للمقاومة وتخلُق أرضًا خلفيّةً لها، لكن تحت أوضاع سياسيّة واجتماعية معيّنة من الممكن أن تتحوّل هذه «السخرية السياسية» إلى عادة يومية، بحيث يصبح التندُّر والضحك وتداول النكات هو أكثر ما يمكن فعله. وقد يستمرّ هذا الحال لعقود.

ثمّة كتُب ودراسات كثيرة حاولت جمع ودراسة النكت وأنماط السخرية السياسية في ثورة «25 يناير»، سواءً التي تداولت في وسائل التواصل الاجتماعي أو كُتِبت على جدران الشوارع أو رُفعِت في اللوحات التي شاركت في المظاهرات. ورغم كل هذا، يبقى الجانب النظري في مفاهيم السخرية وأثرها سواءً في المجتمع أو في المقاومة السياسية؛ مجالًا غير مطروق كثيرًا لا عربيًّا ولا غربيًّا.