التشبيح الجديد: أخونة كلّ شيء
نُشِرَ في صحيفة التقرير الالكترونية، 14/07/2014.
بدايةً.. عن الشخصية التسلُّطية:
يُعد مفهوم «الشخصية التسلُّطية» من المفاهيم الكلاسيكية في علم النفس وعلم الاجتماع؛ تطوّر هذا المفهوم خلال القرن العشرين على يد فلاسفة ومفكّرين مدرسة فرانكفورت (معهد العلوم الاجتماعية في فرانكفورت، ألمانيا). وفي عام 1942، نشر عالم النفس الألماني إريك فروم دراسته «الخوف من الحرية» ليقدّم فيها مفهومه عن الشخصية التسلُّطية؛ واصفًا عمليات مثل: تقديس الحاكم «الفوهرر»، عبادة الدولة، باعتبارها دينًا علمانيًّا في العصر الحديث، بما تحمله كلمة دين من طقوس وعبادات واعتقادات يقينيّة.
لكن الأكثر شهرةً وإحالةً إليه دراسة الفيلسوف ثيودور أدورنو وزملائه والتي نُشِرَت في عام 1950 بعنوان: «الشخصية التسلطية» متناولًا الأسس السيكولوجيّة للسُّلطة وتفسير انتصار هذه «الشخصية التسلُّطية» في أوروبا في حينها. لاحقًا، وُجِّهَت انتقادات كثيرة لدراسته تُسائل المنهجيّة والنتائج والتعريفات التي اتّخذها.
لاحظ أدورنو وزملاؤه عدّة ملامح لهذه «الشخصية التسلُّطية» منها مثلًا: الخضوع التام للسلطة، عدم القدرة على تحمل الاختلاف والاعتقاد بضرورة تعنيف أولئك المختلفين، الميل للنظرة إلى العالم بوصفه مقسومًا بين البياض والسواد، الاعتقاد بالإجابات البسيطة المفسّرة للعالم مثل: “الإعلام هو الذي يسيطر على عقولنا”، “فقدان الأخلاق هو مصدر كل مشاكلنا”.
التشبيح بوصفه امتدادًا للشخصية التسلُّطية:
كما يُلاحظ د. عبدالسلام المسدّي أن إطلاق الاسم هو اختيارٌ في حدِّ ذاته يتضمّن نوعًا من التأويل ولونًا من الإدراك، وأن فعل التسمية نفسه هو جزء لا ينفصل عن الأيديولوجيا السّياسية. ويُعد عام 2011 من أكثر الأعوام التي نُحِتَت فيها مصطلحات جديدة لتُضاف إلى قاموس الخطاب العربي. ظهر مصطلح «الفلول» في مصر مثلًا، ومصطلح «الشبيحة» في سوريا؛ رغم أنه كان موجودًا سابقًا لكنه لم يكُن معروفًا.
في البدء، كان يُشار إلى الشبيحة بوصفهم: العصابات المدرّبة الموالية للنظام والتي تعمل ميدانيًّا بصورة غير رسمية لتصفية الثوّار. ثم لم تلبث الكلمة أن امتدّت لتشير إلى كل من يبرّر عُنف الدولة ويُساند النظام، فأصبح هناك بالإضافة إلى الشبيحة الميدانيّين: تشبيح إعلامي، تشبيح ثقافي، تشبيح إلكتروني، إلخ.
الملامح التي حدّدها أدورنو للشخصية التسلّطية تبدو قريبةً جدًّا من نماذج «الشبّيحة»، نحن نتحدّث عن أشخاص في سبيل دفاعهم عن نظامٍ ما، لديهم قابليّة لتبرير أي شيء، وقناعة تامّة بأن كل ما يحصل هو مؤامرة تدار من مكاتب (إسرائيلية- أمريكية)، وبسهولة ينسبون المختلفين معهم إلى أنّهم عملاء لتنظيمات دوليّة أو لأجانب يسعونَ لتخريب الوطن.
التّشبيح الجديد.. مصر وشمّاعة الإخوان مرة أخرى:
يبدو الحديث عن «شمّاعة» الإخوان أو الإسلاميين مألوفًا ومتكرّرًا؛ إذ دأبت كثيرٌ من الأنظمة العربيّة في تصفيتها للمعارضة بحجة انتمائها للإخوان. ورغم أن هذه الفكرة تُقال كثيرًا، إلا أنه لا زال معمولًا بها من قبل أنظمة وإعلاميين ومثقفّين على نفس الوتيرة. ظهرَ هذا مبكّرًا من بداية أحداث الربيع العربي في 2011 من أصوات مناهضة له تنسب ما يحصُل على أنه مؤامرة إخوانية؛ في مقابل رواية الثوّار لما يحصل بوصفه انتفاضة شعب يطالب بالحرية والكرامة والعدالة.
كان مصطلح «الدولة العميقة» يُطلق بدايةً على توغُّل الجيش والمؤسّسات الأمنية في مصر في مفاصل الدولة والمجتمع، انقلبَ هذا المصطلح ليصبح دلالةً على توغُّل الإخوان وبالتالي تبرير اعتقالات كثيرة بناءً على انتمائها للإخوان.
يبدو واضحًا أن هذه الفكرة تُعَدّ مرحلة تالية على سؤال أسبق: هل يجب أصلًا ملاحقة الإخوان واعتقالهم؟ بدا هذا السؤال مفروغًا منه أمام الصورة المشوّهة التي تركها الإخوان في الذّاكرة خلال فترة حكمهم؛ ورغم أن الإخوان مسؤولون عن هذه الصورة التي صنعوها بأيديهم، إلا أن هذا لا يعني تجاهُل السؤال عن ما يجب فعله تجاههم وتركهم تحت رحمة المؤسّسة الأمنية.
في 25 يناير هذا العام، انطلقت مظاهرات ذكرى الثورة، ومنها «مسيرة المعادي» التي اُعتُقِل فيها 20 شخصًا أعلنت النيابة العامة عن أسمائهم. ومن هذه الأسماء: الناشطة نازلي حسين؛ عضوة في مجموعة «لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين»، اتّهمتها تحريّات الأمن الوطني بالانتماء للإخوان المسلمين، رغم أنها كانت مشاركة في 30 يونيو 2013 ومُطالبة بإسقاط نظام الإخوان. وخرَجت بعد ذلك الاعتقال بثلاثة أيام.
«تيتو» هو لقب يُطلق على شاب مصري اسمه: طارق محمد حسين، وعمره 21 سنة وينتمي لحزب الدستور، اُعتُقل «تيتو» في مسيرة المعادي نفسها 25 يناير 2014 ولا زال للآن، واتِّهَم رسميًّا بالانتماء لجماعة الإخوان. طارق «تيتو» نفسه، متّهم في قضيّة أخرى -رُفعت خلال فترة حكم الإخوان- بالاعتداء وتخريب مقر مكتب الإرشاد بالمقطّم. هو ذات الشخص، اُتِّهَم مرةً بالاعتداء على الإخوان ولا زالت القضية سارية، واُتِّهَم أيضًا بالانتماء للإخوان وأُعلِن الحكم عليه -بسنتين سجن- في بعض الصُّحف المصرية.
بقدر ما تبدو قصّة «تيتو» هذه، قصّة من أغرب القضايا السياسيّة في مصر، إلا أنها تُشير بوضوح إلى مدى عشوائيّة الاتّهام بالانتماء للإخوان.
إعلاميًّا، لم ينجُ «وائل غُنيم» أحد مؤسّسَي صفحة «كلنا خالد سعيد» من اتّهامه بالانتماء للإخوان، و«الإعلامي مصطفى بكري» يقول إنه يملك وثائق تؤكّد انتماء «باسم يوسف» أيضًا للإخوان. وقصة «أبلة فاهيتا الإخوانية» من أكثر الأشياء المثيرة للسخرية والتي تشير إلى سياسة: أخونة كل شيء. ويستمر الحال هكذا.
.. وفي السعودية أيضًا:
في 8 يناير من العام الجاري، أنشأ مجموعة من الأشخاص هاشتاقًا على تويتر بعنوان: اختراق الإخوان لمؤسّسات الدولة، ناسبين فيه تواجدًا يمثّل خطرًا أمنيًا على الوطن للكثير من أعضاء الإخوان داخل وزارتَي الثقافة والإعلام، والتربية والتعليم. وغيرها من مؤسّسات الدولة.
وفي أواخر شهر مايو من العام الجاري، وتعليقًا على ضعف الإقبال على الانتخابات الرئاسية المصريّة وقتها، كتب د. فهد العرابي الحارثي عدّة تغريدات مفسّرًا فيها سبب ضعف الإقبال بتجاهل شباب 25 يناير وعدم الرغبة في عودة «حكم العسكر». هُوجِم العرابي واتُّهِم بتهمٍ منها تهم شخصيّة تنسب رأيه هذا لرغبته في تحقيق مصالح خاصة، ومنها تهم تخوين ومخالفة للوطن وتعاطُف مع جماعة صُنِّفَت رسميًّا على أنها إرهابية «الإخوان».
وفي 8 يونيو من العام الجاري، نشرت صحيفة الاقتصادية مقالًا للكاتب محمد جزائري بعنوان: (كيف أيقظ «الإخوان» و«اليسار» الهوية المناطقية لدى «صوفية الحجاز»؟)، رابطًا فيه بين الحِراك الذي يُطالب بوقف هدم الآثار في مكة بالإخوان وغيرها من الروابط العجيبة التي يصعب إيجاد أي منطق لها.
الكاتب في صحيفة عكاظ خلف الحربي كتب في 31 أكتوبر 2012 مقالًا بعنوان: «هلكتونا بالإخوان!» مشيرًا فيه بسخرية إلى «بعض المثقفين والصحفيين المنافقين» الذين تخصصوا تلك الأيام -وحتى الآن!- «في تضليل الشارع العربي وإلصاق أي تهمة بالإخوان المسلمين».
ولكن.. ماذا لو كان حقيقةً؟
إذا كان تلفيق التهم والاتهام بالانتماء للإخوان واضحًا في مصر، فهل هو كذلك في السعودية؟ وهل فعلًا الدولة مخترقة من قبل «الإخوان»؟ وماذا لو كانت كل هذه التهم صحيحة؟
كل هذه الأسئلة مشروعة وتستحق المناقشة، لكن ليس قبل تفسير أولًا معنى هذا الانتماء، فجماعة مثل الإخوان المسلمين كانت في السعودية تحظى بدعمٍ حكومي واسع، من الطبيعيّ جدًّا أن يبقى لها جمهورها ومحبوها. لكن هل يفرّق هؤلاء «الشبيحة الجدد» بين الانتماء إلى «التنظيم الدولي» وبين الانتماء لأدبياتها العامة ومجمل أفكارها؟ هم لا يفرّقون. هل يفرّقون بين الانتماء إلى الإخوان وبين التعاطف مع الضحايا واحترام حق الإنسان مهما كان توجّهه؟ هم لا يفرّقون. وهُم غير معنيّين سوى بترويج بروباجندا «فوبيا الإخوان» دون أن تعنيهم أيٍّ من تلك الفروق؛ وبسهولة شديدة جدًّا يرمونَ المختلفين معهم بتهمة الانتماء للإخوان.