Skip to content

Go back

عن الحاجة إلى تحديد سلطة الدولة

عن الحاجة إلى تحديد سلطة الدولة

* نُشِرَ في صحيفة التقرير الالكترونية، 20/04/2014.

تأتي الحاجة إلى تحديد سُلطة الدولة كجواب على سؤال: إلى أي مدى يحق للدولة -والدولة هنا بالمعنى التاريخي لا الفلسفي: النظام السياسي القائم؛ بممثّليه ومؤسّساته- أن تفعل ما تراه صالحا لها أو للمجتمع؟ ما هو الأمر الذي لو فعلته لحقّ للشعب المحكوم تحت هذه الدولة أن يقول: لا، لا يحقّ للدولة أن تفعل ذلك؟

لأجل الحصول نظرياً على علاقة محدّدة مناسبة بين الدولة والمجتمع؛ كان التفكير في (العقد الاجتماعي) بين الحاكم والمحكومين، الذي يكيّف طبيعة هذه العلاقة. وكان التفكير في (الدساتير والقوانين) حتى يكون واضحاً ومعلناً توزيع الأدوار بين المجتمع والدولة بحيث يكون صفقة يستفيد منها الطرفان مالم يحصل نقضاً لشروطها. وكان التفكير في مفهوم (المواطنة) وما هي الصفة الاعتباريّة لهذا المواطن وعلاقته بالأرض التي يحيا عليها. لهذا لا غرابة أن يعُد عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين مبدأ (تحديد سلطة الدولة) بوصفه المبدأ الأكثر مركزيّةً في الفكر الديموقراطي. كل هذا في سبيل أن لا تكون هذه السُّلطة مجرّد قوّة اعتباطيّة ونُخبة متحكّمة لا علاقة لها بما يجري تحتها، لهذا تُعد أهم فوائد مثل هذا التحديد: وجود سُلطة مبرّرة وتملك صفة معقوليّة لها، وثانياً: تضمن الأمان للحاكم والمحكومين. وثالثاً: تنظّم علاقة مرنة بين المجتمع والدولة.

كانت للبشريّة دروساً قاسية من الآثار المدمّرة التي خلّفتها الدول الشّمولية والحرب العالمية الثانية، كان (تأليه الدولة) فكرةً تُحمى بقوّة السلاح. الدولة لا تملكُ أيَّ حدودٍ أخلاقيّةٍ لما يمكن أن تفعله تجاه أفراد شعبها بل وحتى تجاه القرارات الخارجية وإعلان الحروب على الشعوب الأخرى. ومقاومة هذه الدولة بأي شكل تعرّض للخطر. كانت الدولة الشموليّة كأنها تجسيداً حياً للمقولة الشهيرة للمؤرّخ الإنكليزي اللورد أكتون (السُّلطة المُطلقة مفسدة مُطلقة). تأتي الحاجة إلى تحديد سُلطة الدولة أيضاً من الخوف من أن تتحوّل إلى شيءٍ كهذا.

في عام 1958 ألقى الفيلسوف الإنكليزي كارل بوبر محاضرةً –وسط ظروف سياسية متوتّرة بعد آثار الحرب العالمية الثانية- يناقش فيها السؤال الذي طُرِح مُنذ أفلاطون: (من الذي يجب أن يحكُم؟)، هذا السؤال الذي ناقشه أكثر فلاسفة السياسة، يقترِح كارل بوبر سؤالاً آخر هو أولى بالانشغال به، يقول: (السؤال ليس “من يجب أن يحكم؟” ولكن “ما هو مقدار السلطة الذي يجب أن يُعطى للحكومة؟”). يوضّح أكثر: (“كيف يمكن أن نُطور مؤسساتنا السياسية بأسلوب لا يسمح حتى للحكام غير الأكفاء وغير الأمناء أن يسببوا كثيرًا من الضرر؟”). يبرّر وجوب طرح ومناقشة هذا السؤال بأن “المسألة الأساسية للنظرية السياسية هي مسألة فحوصات وموازنات، للمؤسسات التي بواسطتها يمكن ضبط وترويض تعسف وسوء استخدام السلطة السياسية”.

نجد في الآباء المؤسّسين للولايات المتّحدة تنبّهاً أكثر لهذه الحاجة، ففي عام 1778 وفي ذروة حرب الاستقلال كتب توماس جيفرسون: (أظهرت التجربة أن أولئك المؤتمنين على السلطة، وبمرور الوقت، قد حرّفوها، بعمليات بطيئة، إلى الطغيان، حتى في أفضل أشكال الحكومات). وبعد انتهاء الحرب/الثورة، في مقالٍ نُشِرَ عام 1788 لإقناع الناس بالتصديق على الدستور، منسوب لجيمس ماديسون، نجد عبارته الشهيرة: (لو كان الناس ملائكة لما كان وجود الحكومة ضرورياً. ولو حكم الملائكة مجتمعاً بشرياً لانتفت الحاجة إلى وجود كوابح خارجية أو داخلية على الحكم أصلاً). يُكمِل قائلاً: (أما عند صياغة حكم يديره أفراد من البشر ويمارس على بشر – فإن الصعوبة تقوم في ما يلي: يجب تمكين الحكومة من السيطرة على المحكومين؛ هذا أولاً، ثم في المقام الثاني يأتي إجبارها على أن تسيطر على نفسها).

بالنسبة إلى عالمنا العربي: “تحديد سُلطة الدولة” وتمكين الرقابة الاجتماعية على عدم تجاوزها لهذه الحدود، لا يُعَد سوى خطوة واحدة من خطوات كثيرة ضمنَ طريقٍ طموحٍ إلى عالمٍ عربيٍّ أفضل. هي خطوة فقط وليست نهاية. أوضّح هذا لأن هنالك إشكالات دائماً تواجه بها كل الدعوات الإصلاحية -ذات الخلفية الديموقراطية- للأنظمة العربية القائمة. منها مثلاً: أن هذا “الطموح” ليس سوى عبارة أخرى ل”الجنة” السياسية الغير ممكنة. لماذا؟ لأنّه ليس هنالك نظامٌ في العالم بريءٌ تماماً من الإشكالات المذكورة. وبالتحديد الولايات المتّحدة المذكورة كمثال. هنالك شيءٌ من الصحّة في هذا الخطاب، لكنّه بالمقابل لم يقدّم أي وسيلة أخرى لتحقيق الضمانات الأخلاقية التي يحتاجها أيُّ خاضعين إلى سُلطة تجاه السُّلطة التي تحكمهم. وحتى الدُّول التي قامت على مثل هذه الأسس ولكنها لم تحقّقها كاملةً، نحن ضمناً نعترف أن ثمّة قدراً كبيراً منها نجح طالما أننا ننفي عنها “الكمال” و”البراءة التامة”. أما العزوف الكامل عن المحاولة، وتقديم المحافظة على الوضع القائم بوصفها البديل الوحيد، فلا يمكن أن يفهم هذا الموقف سوى بوصفهِ مساندة ساذجة للأنظمة القائمة.

هل تكفي الدساتير القائمة في عددٍ من البلاد العربية على أداء هذا الغرض؟ ثمّة أمران هنا: أولاً: الصفة التشريعية للدستور وحدها غير كافية. فالرّقابة المدنيّة الاجتماعية على السُّلطة التنفيذية تمثّل خطوة التحوُّل من النظري إلى التطبيقي. مما يقودنا إلى الأمر الثاني: أن واقع الطريقة التي قُوبِلَت بها انتفاضات العالم العربي في 2011 وملفّات الانتهاكات التي فُتِحَت أثارت الحقيقة الصارخة بأن هذه الدساتير ليست سوى نصوصٍ على أوراقٍ تُدرّس في كليّات الحقوق.

هل يمكن “تحديد السُّلطة” ضمن النُّظم العربية الملكيّة؟ إن مصطلح “نظام ملكي” لا يُحيل بالضرورة إلى الأشكال الأولى القديمة من الملكيّات، والذي يُجسّد فيه الملك الإرادة المطلقة الغير محدودة. يُلاحظ أستاذ العلوم السياسية موريس دوفرجيه أن بعض الملكيّات المعاصرة وجدت نفسها مضطرّة إلى الدفع بنفسها إلى الاجتهاد في القطيعة مع بُنى الملكيّة البدائية إلى بُنى حديثة؛ خاصّةً على المستوى الاقتصادي والسياسي. وحين يكون مطلب “تحديد السُّلطة” ضرورياً وتلتزم الدولة الملكيّة به فهي تقطع السُّبُل على أي محاولات للتغيير قد تفرضها قوّة غير قوّة الدولة نفسها. والمثال الأكثر شهرةً للملكيّات المحدودة الصلاحيّات: نُظُم الملكيّات الدستوريّة.

ألا يمكن إثارة مشكلات نظريّة متعلّقة بهذه الفكرة؟ أين تقع بالضبط حدود سُلطة الدولة؟ ما هي الأسباب التي قد تضطرّ الدولة فيها لاختراق هذه الحدود؟ هل يمكن أن تكون هنالك بعض المخاطر من وضعها؟ كلّ هذه أسئلة مشروعة فيمَ لو فُتِحَ حوارٌ حقيقيٌ حول هذا الأمر واكتسبت الشعوب ثقة -لا خوف- حكّامها واحتوَت مخاوفهم