Skip to content

Go back

أسطورة حول الإرهاب: الجهل وتدنّي الدرجة العلمية.

أسطورة حول الإرهاب: الجهل وتدنّي الدرجة العلمية.

نُشِرَ في صحيفة التقرير الالكترونية، 12/05/2014.

( لقد كان في البداية كأي طالب أجنبي عادي، لكن الشيء المميز فيه أنه كان مهذّباً جداً، ذكياً جداً. كان يُناقش جيداً وكان مهتماً بكل التفاصيل. وخضنا معاً في العديد من النقاشات في تفاصيل القضايا الأكاديمية ) بهذه الكلمات وصف البروفيسور ديتمر ماخول الطالب الذي درس على يده وكتب رسالته تحت إشرافه: محمد الأمير، وهو محمد عطا، الشاب المصري وطالب الهندسة المعمارية في ألمانيا، ومخطّط رئيسي لعمليّات 11 سبتمبر 2001 وقائد الطائرة التي ارتطمت بمركز التجارة العالمي.

زياد جرّاح، الشاب اللبناني الذي كان يدرس هندسة الطيران وتصميم الطائرات في ألمانيا أيضا، والذي كان يُوصف بشخصيته الودودة والهادئة، هو أيضاً أحد منفّذي هجمات 11 سبتمبر باختطافه طائرة يونايتد ايرلاينز ورغبته في تحويلها إلى واشنطن قبل أن يُقاوم أهل الطائرة ويضطرّونهم إلى السقوط بها في أرضٍ خالية وتحطيمها قبل الوصول إلى وجهتها.

ثمانية من أصل 19 ممّن نفّذوا تلك الهجمات كانوا حاصلين على شهادات أكاديميّة في الهندسة. ويذكر الصحفي بيتر بيرجن في مقالة في النيويورك تايمز يناقش فيها دعوى أن المدرسة (أقرب إلى معنى: مدارس التحفيظ، الكتاتيب) تُولّد التطرُّف الديني، رداً على هذه الدعوى يقول أنه قام بفحص الخلفيّة التعليمية لـ75 إرهابياً –قاموا بهجمات مختلفة من 1992 إلى 2002-. وكانت نسبة 53% منهم قاموا إما بالدراسة في التعليم العالي أو الحصول على درجة في التعليم العالي.

المفكّر العربي محمد عابد الجابري، في محاولة لتفسير أمر يبدو لأول وهلة غريب ومحيّر كهذا، يقول في كتابه «المسألة الثقافية» أن الكليّات والمعاهد العلمية عندنا تعطي طلاّبها العلم من دون ثقافة، فلذلك يأتي التطرُّف الديني ليملأ الفراغ ويقدّم نفسه كثقافة. يوضّح ذلك أكثر بأنها تقدّم العلم بوصفه «قوانين» فقط. بحيث يرسّخ في الذهن الدوغماتية والنظرة الحدّية المغلقة والشعور بامتلاك الحقيقة، ومن ثم القابليّة للتعصُّب. وأنه مع غياب العقل النقدي سيبقى الباب مفتوحاً على مصراعيه للتطرّف وأطروحاته.

لكنّ السؤال الذي يبقى مطروحاً أمام معالجة الجابري هذه، أن تقديم العلم بوصفه قوانين فقط وترسيخه في الذهن النظرة الحدّية، لا يمكن أن ندّعي أنه مشكلة عربية فقط. ومن هذا السؤال سنحتاج إلى أن نجعل سؤال البحث يدور حول تفسير تخرُّج الكثير من الراديكاليين من الكليّات العلمية في المجتمعات العربيّة أكثر من غيرها. وإذا كان العنصر الغائب المفسِّر لأمر كهذا هو «غياب العقل النقدي»، فنحن بحاجة أكثر إلى أن نفهم ما هو هذا العقل وهل هو مشكلة تختصّ بها المجتمعات العربيّة أم يشمل أيضاً غيرها من المجتمعات.

الكاتب رياض الصيداوي، في مقالته «نحو تفسير ظاهرة الأصول العلمية التقنية لنشطاء الحركات الإسلامية»، يتبنى أيضاً مفهوم الجابري، لكنه يضيف عليه انحيازاً غريباً فيدّعي أن ما يسمّيه «الأصولية الإسلامية» يتواجد بكثرة في الأقسام العلمية ولكنها ليست كذلك في أقسام الحقوق والعلوم الاجتماعية والإنسانية. والغريب في هذه النظرة أنها تفترِض تصوّراً طوباوياً عن العلوم الاجتماعية بحيث أنها تتعالى على التطرُّف والراديكالية. رغم أنه من السهل جداً ملاحظة أساتذة لهذه الأقسام في الجامعات العربية يلعبون دورَ الذراع الثقافية للاستبداد وإرهاب السلطة ويبدونَ طواعيةً آراءً في أكثر أشكالها فاشيّةً وراديكاليةً تجاه الآخرين. ومثل هذه التوجّهات غير بعيد جداً تحوّلها إلى عمل إرهابي طالما أنها تنظّر وتشرعن له. فقط يحتاج الأمر إلى فرصة. وعلى كلٍّ، كل هذا لا يثبت شيئاً ما دمنا لا نتحدّث عن أرقام وإحصائات وحالات بعينها تستحق الدراسة.

للمفكّر الكويتي خلدون النقيب زاوية نظر أخرى، فهو يلاحظ مشكلة ما أطلق عليه «طغيان كم التعليم على كيفه» بحيث أصبح التعليم المنظم مجرد عملية ميكانيكية لمنح شهادات إلى أنصاف متعلمين، همهم الحصول على الشهادة ذاتها وليس التعلم والرقي الثقافي هدفاً. يربط بين هذه المشكلة وبين «انتشار التعليم وتوسعه الكمي الهائل في فترة قصيرة» والذي حدث أصلاً في الغرب قبل أن ينتقل إلى دولة المشرق العربي. بالإضافة إلى «عدم توفر المرافق والمستلزمات الملائمة لتوسع التعليم هذا». بلا شك تقدّم هذه الملاحظة –مع سابقها ولاحقها في كتابه «الدولة التسلطيّة في المشرق العربي المعاصر»- ملامحاً هامّةً في تفسير مُشكلات التعليم في المجتمع العربي. ولكنها لا تصب بشكل مباشر في السؤال الذي نبحث عنه.

نموذج آخر مثير للاهتمام من هؤلاء “الإرهابيين المتعلّمين” لكنه هذه المرة من الولايات المتحدة الأمريكية، تيد كازينسكي، وهو عالم رياضيات أمريكي –مسجون الآن- وأستاذ جامعي أضاف لمجاله الأكاديمي الكثير، وهو أيضاً المسؤول والذي اعترف بعمليات تفجيرات نشطة ما بين عامي 1978 و1995 مستهدفاً فيها مشجّعي صعود التكنولوجيا ومحاولاً بشراسة أن يقف في وجه الحداثة الغربية.

رغم الفوارق الكثيرة، إلا أنّ استدعاء نموذج تيد كازينسكي يبدو لي الأكثر قُرباً لفهم “الإرهاب الإسلامي”، وإن كانت قضيّة تيد مشكلته مع الحداثة والتكنولوجيا وأضرار المجتمع الحديث، فقضية “الإرهاب الإسلامي” تبريرها عند أصحابها مرتبطاً بنزعة الأمركة العالمية وبسياساتها الخارجية وباحتلال العراق وأفغانستان ودعم احتلال فلسطين. كما أكّد على ذلك جون ميولر أستاذ العلوم السياسية في جامعة أوهايو في دراسة 52 حالة من المتطرّفين الإسلاميين المستهدفين لأمريكا.

بالنسبة لي، لا علاقة بتاتاً بين درجة التعليم والانخراط في المشاريع الإرهابيّة. والأمر يعود لاختلافات شخصيّة بحتة تُحيل إلى مدى وقابليّة تحويل فكرة في الذهن إلى واقع مهما تطلّب ذلك من عُنف وضحايا. هذا الاستعداد الذي يكلّف الحياة قد يتوفّر أو لا يتوفّر بنفس الدرجة عند صاحب درجة تعليم عالية وعند أُمِّي لا يقرأ ولا يكتب.

أما «الإرهاب»، هذه الكلمة التي تردّدت كثيراً، فلا بد لنفهمه أن نفهمه من داخله ومن خطاب وأقوال منظّريه، الصورة المبالغة في تبسيط الإرهاب إلى حدّ السذاجة بوصفهم مجموعة جهلة فهموا نصوصاً دينيّة بشكلٍ محرّف وقاموا بتكفير باقي المسلمين؛ المخيف في هذه الصورة أنه رغم نجاحها في الدعاية التحذيرية؛ إلا أنها صورة من السهل لأيٍّ من المنتمين إلى الجهات الإرهابية تفكيكها.

ويبقى الإرهاب في الأخير يُسمى إرهاب مهما كانت المبادئ التي يقف أو يدّعي الوقوف عليها سامية. وقتل الأبرياء دائماً يبقى خط أحمر. وترك إعلان “حالة الحرب” التي “يجوز فيها قتل الأبرياء” بشكل عبثي تحدّده مجموعة هنا أو هناك لا يعني سوى أن يقتتل الكل ونعود إلى مجتمعات ما قبل الدول. لكن المؤسف دائماً عند الحديث عن «الإرهاب» أنه يُسمح لطرفٍ واحد فقط أن يدينه؛ هو من يحتكر تعريف الإرهاب ويبرّئ نفسه منه إذا ما قام بذات ما يُدينه.