Skip to content

Go back

في نقد الدولة الأبوية: الحاكم ليس أباً.

في نقد الدولة الأبوية: الحاكم ليس أباً

نُشِرَ في صحيفة التقرير الالكترونية، 05/05/2014.

كانت المحاولات التأسيسية لنظرية الدولة وأمة المواطنة؛ ومن بدايات تاريخ الفكر السياسي عند أفلاطون، تستعين بمجازات واستعارات وتشبيهات متصلة بحياة الإنسان لتقريب عدّة مسائل تُساعد في فهم شبكة العلاقات التي تتكوّن داخل حدود الدولة، هذه المسائل التي تشمل أسئلةً مثل: ما الذي يمثّله الحاكم بالنسبة للمحكومين؟ ما علاقة الحكومة/ المؤسسات العامة/ القانون/ السُّلطة المحتكرة للعنف؛ بالمجتمع الذي تديره؟ ما هو المجتمع وما الذي يمثّله الفرد فيه؟ يمكننا أن نقفَ على العديد من المجازات التي تحضر حين تُجيب نظرية الدولة على كلٍ هذه الأسئلة.

ومن أشهر هذه المجازات: مثال:”السفينة التي تسير في البحر ولا تغرق، والطريقة التي يتم بها توزيع الأدوار بين الطاقم الذي على متنها، وما يمثّله الربّان بالنسبة إليهم والهدف المشترك الذي يسعى إليه هو وأفراد الطاقم”، ومثال:”الجسد الواحد الذي يتكامل بالوظائف المتعددة لكل منطقة منه، وعدم استغناء بعضه عن بعض”، ومثال:”الجدار الضخم الذي يُبنى من عدة لبنات”. والمثال الذي أريد مناقشته هنا، هو مثال “دور الحاكم بالنسبة للمحكومين -دور الدولة بالنسبة للمجتمع- مثل دور الأب بالنسبة للعائلة”.

يُعد المفكّر الانجليزي السير روبرت فيلمر (1588 – 1653) هو أكثر من أخذ هذا المثال على أقصى أبعاده والتزاماته؛ ونظّر له ولدولة الملكيّة المطلقة و”الحق الإلهي للملوك” بحماس شديد. قابل انتشاراً وهوىً محبّباً لدى ملوك انجلترا. بلا شك يُعد تنظير فيلمر للدولة البطريركية -الأبوية -،مرتبطاً بأفكاره حول اعتبار الملكيّة المطلقة أفضل نماذج الحكم، والحق الإلهي للملوك. يبني فيلمر نظريّته بمقدّمة تعود إلى قصة الخلق وطوفان نوح، فالله خلق آدم وخلق المرأة من أحد أضلاعه، وأعطى لآدم السُّلطة على ذويه وعلى الأرض المسخّرة لأجله، وبهذا يصف آدم بأنه كان أول ملك على هذه الأرض، وليس لأحد من سلالته أن يكون ملكاً إلا إذا ورث هذه الملكية منه. بالنسبة إلى الآباء فهم (حُكومة عائلاتهم، وأصحاب السُّلطة التي لا يختارها الأبناء أو الزوجة). وهذه الأبويّة لا توجد في أشكال الحكومات سوى في نموذج الملكيّة المطلقة، وهذا سبب كونها أفضل أشكال الحكومات.

الفيلسوف الانجليزي جون لوك (1632 – 1704) تصدّى لهذه النظريّة بالنقد الحاد في نُقاط عدّة لخّصها د. إمام عبدالفتاح إمام في كتابه (الطاغية) على نحو يُظهِر أهم جوانب المُشكِلة في هذه المقارنة، ومن هذه الانتقادات:

أولاً: يُجادل لوك في حجّة فيلمر التي تستند على أن (كل فرد يصبح، بحكم المولد، مسخّراً بمحض ولادته لمن يلده). ويردُّ على ذلك لوك بأن إنجاب الأب لأبنائه لا يجعلهم عبيداً له.

وثانياً: إن القول بأن التسلُّط على الأولاد هو مصدر كل سُلطة في الحكم قولٌ خاطئ، فهناك كثرةٌ من الأحكام المتسلّطة للحكومة لا صلة لها بعلاقة الأب بأبنائه داخل الأسرة.

وثالثاً: إن سُلطة الأب على أبنائه مؤقّتة وليست مُطلقة؛ فهي تستمر ما داموا لم يبلغوا سن الرشد، أما في مرحلة النُّضج فإنهم يصبحون مسؤولين عن أنفسهم.

ورابعاً: إن العلاقة بين الملك ورعاياه ليست شبيهة نوعياً بالعلاقة بين الأب وأبنائه، فالأولى علاقة سياسية، والثانية علاقة أخلاقيّة.

جان جاك روسّو (1712 – 1778) أيضاً انتقد –من غير توسُّع- أفكار فيلمر في مقالته (في الاقتصاد السياسي) وفي كتابه الشهير (العقد الاجتماعي). ففي أولى فصول الكتاب يعود روسّو إلى الأسرة بوصفها المجتمع الطبيعي الأوّل الذي يحيا فيه الإنسان. يصف ارتباط الآباء بأبنائهم بقوله: (لا يدوم إلا طيلة الوقت الذي يحتاجون في أثنائه إليه لحفظ بقائهم. وما إن تنفكّ هذه الحاجة، حتى تنحلّ الرابطة الطبيعية). ثم بعد ذلك يدخلوا جميعهم على حدٍّ سواء في طور الاستقلال. ويُلاحظ فرقاً جوهرياً بين علاقة الأب بالأبناء والرئيس بالشعب، فالأب يحنو على أولاده بما يصرفه لهم من عناية، بينما الرئيس يكون- في الأصل- معدوماً من هذا الحنو إزاء شعبه.

في سياق عالمنا العربي، لا يزال نموذج الدولة الأبوية؛ الحاكِم-الأب، مهيمناً- وعي وبلا وعي- على فكر وثقافة النخب السياسية، رغم كل محاولات تفكيكه والخروج بنموذج جديد. لا يُشترَط أن تكون الدولة ملكيّة أو إقطاعيّة بنفس الشكل الذي نظّر له فيلمر لكي نُلاحظ توغّل نموذج الدولة الأبويّة في الأذهان.

أتذكّر مثل كثير غيري كلمة الرئيس المصري المعزول حسني مبارك يوم 10 فبراير 2011 قبل إعلان تنحّيه بيوم: (أتوجه بحديثي اليوم إلى شباب مصر بميدان التحرير وعلى اتساع أرضها، أتوجه إليكم جميعاً بحديث من القلب، حديث الأب لأبنائه وبناته..). لا يزال تفكيرُ النُّخَب السياسية في دورهم تجاه الانتفاضات والمظاهرات والحراك السّلمي تفكير الأب الذي تمرّد عليه الابن الغير الناضج فيسعى إلى تأديبه ومعاقبته. لم تُحسَم هذه المسألة بعد، لم تنشأ بعد علاقةً بين النّخبة السياسية والمجتمع ترسم أُفُقاً مختلفاً.

بمَ أُفسّر ظُهور الكثير من عامة الناس الذين نادوا في وقت انتفاضات مصر وتونس وليبيا وغيرها في إشارة إلى الحاكم: (اعتبرهُ أباك) ؟ بمَ أفسّر حقيقة أنه لا يزال وصف الحاكم بالأب أو الوالد سِمَة مُلاحظة حتى يومنا هذا؟

أُوافق على هذه الأسئلة فيمَ تُشير إليه: الأمر لا يقتصر على النُّخَب السياسية، بل هي ذهنية متفشّية في شرائح اجتماعيّة واسعة أيضاً؛ تُشابه بين دور الحاكم تجاه شعبه وبين دور الأب في أُسرته. لكنّي أتساءل عن السبب الذي جعل هذه الصورة تبقى كذلك؟ يمكن أن نتحدّث عن أسباب كثيرة، لكنّي لا أشك أن أحد أهم هذه الأسباب، أن هذه الأنظمة المُكرِّسة نفسها بوصفها الأب المُنقِذ؛ لا تسمح بصورة أخرى للحاكم في الخيال الاجتماعي. ويتم هذا عبر مكينة إعلامية ضخمة وقوانين تحدّ من العبارات التي يمكن أن يُوصَف بها الحاكم سلباً أو تدعو إلى محاسبته أو توضّح قصور مهامه.