هل يحمل السيسي رؤية ديموقراطية لمصر؟
نُشِرَ في صحيفة التقرير الالكترونية، 09/06/2014.
من الفترة التي سبقَت 30 يونيو 2013، وتُعَد شخصية المشير عبد الفتاح السيسي من أكثر الشخصيات المؤثرة في المشهد السياسي وصناعة القرار بمصر، ولم يظهر بعدها سوى في الحديث الجماهيري الرسمي وامتنع عن أي ظهور إعلامي باستثناء حوار خصَّ به أحد صحفيّي الواشنطون بوست في أغسطس 2013. وبعد ما أعلن ترشُّحه للرئاسة، بدايةً من يوم 4 مايو 2014، بدأَ في الظهور الإعلامي ليجيب على الأسئلة المُحاط بها بصفته مرشّحًا للرئاسة، وإن كان لا يخلو أي لقاء من اللقاءات من أسئلة توجّه إليه بصفته «رئيسًا» أصلًا، في خطأ إعلامي واضح سبّب إحراجًا للكثير.
المفردات واللغة التي تحدّث بها السيسي كانت امتدادًا لرسالته التي كتبها في 2006 باللغة الإنجليزية بعنوان: «الديمقراطية في الشرق الأوسط» للحصول على زمالة كلية الحرب الأمريكية العليا. ولم تُنشَر الرسالة وتُترجم إلا خلال السنة الماضية بعد ظهور اسمه وتكثّف الاهتمام بأفكاره. وهنا أحاول قراءة بعض أفكاره في رسالته تلك مع لقاءاته الإعلامية خلال الشهر الماضي.
-1-
أول ملاحظة من مُجمل حوارات السيسي الإعلامية: حضور مركزيّة عاليّة جدًّا للدولة، والتي ستُترجم في مشاريع الحكومة، في نسيج المجتمع. فهو في حواره مع «الفنانين» ومع «الإعلاميين» ومع «الأدباء والمثقفين»، يشرح لكل منهم دوره «الوطني» الواجب عليه القيام به، ودوره في تقديم المضمون الملائم للمرحلة، وخطّة السيسي لقيادة المرحلة القادمة التي ينتظر من كلٍّ منهُم دوره في دعمها «للنهوض بمصر». «المرحلة» التي يصفها بالاستثنائية الشديدة والحرِجة في مواجهة الإرهاب والمؤامرات.
وعلى سبيل المثال: فهو يوجّه الإعلاميين في لقائه الجماعي معهم بوصفهم «أصحاب مهمة قومية»، وأن وسائل الإعلام تتحمل هذه الفترة «المسؤولية أمام الوطن»، وأنّهم «الظهير الفكري» لهذه المرحلة. بينما يقول في رسالته في 2006 واصفًا حكومة أحمد نظيف في عهد حسني مبارك وقتها بأنها «تمارس هيمنة مفرطة على وسائل الإعلام التي لا تقدم دورًا مسؤولًا لصالح المجتمع ككل»، وأنه إذا ما وُجد الفساد في الحكومة «فإنه على الأرجح سيبقى طيّ الكتمان، وهكذا سيتوهم عموم الناس أن حكومتهم صالحة وتسهر على رعايتهم كمواطنين». ويقول فيها بصراحة: «على مَن يتولّى السلطة أن يستعد للتخلي عن الهيمنة على وسائل الإعلام».
والسؤال هنا: هل حكومة السيسي ستكون مستعدّة للتخلي عن الهيمنة على وسائل الإعلام كما طالب هو بذلك سابقًا؟ من المبكّر الجواب على هذا السؤال، ولكن، وحيث إن السيسي يتبنّى مفهومًا كلاسيكيًّا في العلوم السياسية: «التنشئة السياسية» وأدواتها من «تعليم» و«إعلام» و«دور عبادة» -يذكر دائمًا «دور العبادة» بهذا اللفظ المستخدم في الكتب-، وأن مفهوم التنشئة هذا له انحيازاته الأيديولوجية، كما لاحظ خلدون النقيب أن وظيفته «أن تتعلم الطبقات الاجتماعية أن التمرد والثورة مكلّفان ماديًّا ونفسيًّا». بهذه الحيثيات كلّها، يبدو من الصعب جدًّا أن يتحقّق ذلك الاستقلال -المطلوب في أي حكومة ديموقراطية- في أيٍّ من تلك المجالات.
-2-
وثاني ملاحظة: تتعلّق بفهمه لدوافع الإرهاب والتفجيرات الإرهابية، وحيث إن السيسي كان هو من وجّه الأمر في 14 أغسطس 2013 لفض اعتصامي النهضة ورابعة، ومن 3 يوليو حتى ذلك التاريخ كانت نسبة أخبار الانفجارات الإرهابية أقل بكثير مما تلا أمر فض الاعتصام.
بينما في رسالته في 2006 يقول بصراحة إنه عندما تصبح الحكومات متسلطة على نحو مفرط، «فإن من يشعر بالقمع قد يردّ عبر الأعمال الإرهابية». قال هذا في سياق وصفه لحال الزعماء الدينيين الذين يتخطون حدودهم في نقد الحكومة في وقتها، واصفًا الحال بأنه: «غالباً ما يكون مصيرهم الزج بالسجون دون محاكمة. فتلك الحكومات التي تدّعي الديمقراطية تمتلك سلطة مركزيّة مشدّدة، وتؤثر تأثيرًا ظالمًا على المخرجات الإنتخابية من خلال التحكّم في وسائل الإعلام والترهيب الشامل».
والسؤال هنا: هل سينجح السيسي في عزل الإخوان المسلمين ومَن معهم عن الحياة السياسية كما يؤكّد دائمًا؟ -ويبدو أن المقصود بالحياة السياسية: الحياة البيولوجية أصلًا-، وأين ذهبت رؤيته سابقًا حول دور التسلُّط الحكومي والقمع في خلق المزيد من العُنف والإرهاب؟ بلا شكّ، إن الملف الأمني في مصر والتفجيرات الإرهابية جديرة بالتعامل بحزم وانتباه، وإن الاستهانة بمطلب «الاستقرار» قلّة وعي بشروط أي حياة اجتماعية. لكن السؤال الذي يبقى دائمًا: «استقرار» بأي معنى؟ لا تبدو خطوة إعلان الحرب على حزب كالإخوان المسلمين له تاريخه والمكوّنات الاجتماعية المتعاطفة معه، خطوة نحو تحقيق «استقرار». أما الطريقة التي نُفِّذَت بها هذه الخطوات، فلم تستوفِ أيّ مبدأ من «مبادئ الديمقراطية» سواً من ناحية احترام حقوق الإنسان أو توفير المحاكمة العادلة، أو غير ذلك من الاعتبارات.
-3-
وثالث ملاحظة: نسيان تامّ لمطالب الفاعلين في ثورة 25 يناير وأسبابها وأثرها على شريحة متّسعة من الشباب. ومظاهر هذا من عدّة نواحي:
فمن ناحية: لا يُدرك السيسي -أو يتناسى- عُمق الرواية التي رُوِيَت بها 25 يناير في نفوس «الشباب». فهي رواية مرتبطة جدًّا -مع عدم تجاهل المسببات الأخرى- بقصة خالد سعيد وانتهاكات الشرطة له حتى الموت، وسلسلة الاعتقالات وقانون الطوارئ. فالمشكلة الأولى هنا مرتبطة بالشرطة ووزارة الداخلية.
ومن ناحية ثانية: القضاء الذي حظرَ حركة 6 أبريل وحكمَ على العديد من هؤلاء «الشباب» بالسجن بتهم مثل: «التحريض» و«التخريب» وغيرها، إلى أن جاءت مؤخرًا تهمة ملائمة أكثر: «التظاهر بدون تصريح» بعد تقنين ذلك عبر «قانون التظاهر».
فمن ناحية الشرطة: يستحضر السيسي ثنائية «الأمن والحرية»، واضعًا «الأمن» الآن في أعلى الأولويات، معلنًا -في لقائه مع زينة اليازجي- أن تطوير أدوات جهاز الشرطة وتحسين كفاءة أفراده وتدريبهم من أولويّات مشروعه.
ومن ناحية القضاء: عندما أشارت الإعلامية زينة اليازجي حول محاكمة «الشباب الثوّار» وأنها أمر يُثير القلق، اعتبرَ هذا السؤال أمرًا «يقدح في عدالة القضاء واستقلاله».
فالقضاء في وجهة نظر السيسي مستقل وعادل، وعند «الشباب» هو ذراع انتقامي للنظام القديم. والشرطة في وجهة نظر السيسي مؤسسة أمنية عريقة وتحتاج إلى تطوير أدواتها، وعند «الشباب» هي الطرف الذي ثاروا عليه وأعلنَوا عليه التحدّي باختيار يوم عيده 25 يناير. هذه وتلك -وغيرها من النواحي- توضّح المسافة الفاصلة بين السيسي و«الشباب الثوّار»؛ وهي نفس المسافة التي جعلَت السيسي يقول عندما سُئِلَ عنهم: «أقدّم لهم التحية والتقدير» و«لم أعرف كيف أصِل لهم».
-4-
نشرَت «وطن نيوز» قبل أسبوع من بداية الانتخابات مقدّمة رسالة «الرؤية الانتخابية» التي كتبها السيسي بنفسه، وفيها يركّز على الهموم الاقتصاديّة والأمنيّة لمصر، وحجم المديونية، ومشروع تأسيسي لدولة عصرية، وأنه يسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات وحياة ديمقراطية سليمة، وتداول سلمي للسلطة، وفصل بين السلطات، و«احترام حقوق الإنسان وحرياته على الوجه الذى يكفله الدستور المصرى».
عبارات كهذه لا يتمنى أحدٌ أن لا تنجح وأن لا يراها متحقّقةً في وطنِه، ولكن تراكمات الذاكرة لا ترحم ولا تبعث على نفس التفاؤل الموجود لدى محبّيه. والأيّام كفيلة بكل شيء.