«قادة الرأي» على الإنترنت.. نحو مفهوم جديد.
نُشِرَ في صحيفة التقرير الالكترونية، 02/06/2014.
كثيرًا ما يبدو الحديث عن تأثير الإنترنت والتكنولوجيا على حياتنا حديثًا ذا نفس أسطوريّ يعتمد على سحر الكلمة والقدرة البلاغية. وأصبحت هناك كلمات مناسبة لصياغة هذا الخطاب مثل: «عصر المعلومات» و«القرية الكونية» و«الثورة التكنولوجية»؛ بحيث أصبح هناك «فخّ» ملازم لمن يقدّم طرحًا في موضوعٍ مرتبط: أن لا يتحوّل طرحه هذا إلى معروض هجاء محتكري المعلومة والاتصال، أو إلى مغازلة التكنولوجيا الجديدة، أو إلى التكرار.
في الحقيقة، لم يكن لهذا «النفس الأسطوري» أن يأخذ قدرته هذه على ترسيخ نفسه إلّا بالاستناد إلى معطيات حقيقيّة جدًّا: قُدرة التكنولوجيا على تسهيل التواصل والتفاعل واكتساب المعلومة خارج وسائل التواصل الرسميّة المُراقبة والمُتحكَّم فيها. هذا الامتياز وغيره بلا شكّ قدّم للبشريّة نمَطًا تواصليًّا فريدًا. لكنّ هذا «الانبهار» يجب أن يبقى في محلّه وحيّزه خاليًا من كل الأوهام التي تُنسَج حوله.
الحديث عن أثر التكنولوجيا في المجتمعات كان حاضرًا بشدّة في القرن العشرين، ولا زال يُناقش على مرّ العقود السابقة.
لكنّ هذا الملف أُعيد فتحه من جديد وبقوّة بعد انتفاضات الربيع العربي في 2011. فلا أحد يُنكِر دورَ وسائل التواصل الاجتماعي فيها: صفحات على «الفيسبوك»، وفيديوهات على «اليوتيوب»، ومغرّدون على «تويتر»، كان لكلّ ذلك دور فاعل في نزول الكثير من الجماهير إلى الشارع في مصر وتونس واليمن وغيرها.
وبمرور الوقت، أصبح هناك اهتمامٌ خاصّ بنمَط جديد من البحوث والدراسات يركّز على أثر وسائل التواصل الاجتماعي في التغيير الاجتماعي والسياسي في «العالم العربي» أو «دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا». وأدّى إلى ظهور الفكرة المألوفة التي تُقال في هذا السياق: «كما أن دول العالم العربي لا توفّر حريّةً ومجالًا عموميًّا للنقاش والمشاركة السياسية، فكان من الطبيعي جدًّا أن تلجأ شعوبها إلى وسائل التواصل الاجتماعي لإيجاد البديل المناسب».
تبدو هذه الفكرة واقعيّة جدًّا لأوّل مرة، لكن في ظل واقعية هذه الفكرة، ننسى أحيانًا أسئلةً سابقة على هذه الفكرة: هل يُعد الإنترنت فعلًا «مجالًا عموميًّا»؟ وهل له دائمًا هذه القدرة على إحداث التغيير الاجتماعي والسياسي؟ وهل هو بديلٌ أو مُشكِّلٌ «للرأي العام»؟ وهل طبيعة وسائل التواصل الاجتماعي هذه هي المُشكِّلة لهذا «المتمرّد» أم أنّها مجرّد حاضن له؟ وهل الحضور العربي عليها فريد من نوعه أم أنه يشمل دولًا أخرى خارج المنطقة العربية؟ لا تحظى هذه الأسئلة بالبحث والتفكير الكافي فيها، خاصّةً عربيًّا.
هذا جانب في تناول هذا الموضوع لا بدّ أن يُؤخذ بعين الاعتبار، وأن يبقى قريبًا حتى لا نقع في أوهام إيمان مُبالغ به في قدرة التكنولوجيا. والجانب الآخر الذي أريد تناوله هنا: تشكيل وسائل التواصل الاجتماعي لمفهوم جديد لـ«قادة الرأي».
يُعد مفهوم «قادة الرأي» من المفاهيم الأساسية في العلوم الإعلامية، بصفتِه يُحيل إلى مجموعة الأفراد المشكّلين للرأي العام والمؤثّرين عليه. تطوّر هذا المفهوم مع عصر الاتصال الجماهيري ووسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية.
هناك تغيّرات كثيرة لا بدّ أن تطال هذا المفهوم، وهي نتيجة لتغيّر في نمط التواصل التكنولوجي المُتاح الآن، من حيث إتاحته أولًا لفرصة الظهور لأيّ شخص؛ وثانيًا للتفاعل مع صاحب الرأي؛ وثالثًا لكون هذا التفاعل فوريًّا ولحظيًّا.
يلاحظ المفكّر الموريتاني السيد ولد أباه في مقالتِه «الثوار العرب الجدد» في صحيفة الاتحاد في فبراير 2011 أنّ من نتائج انسداد أفق التغيير السياسي للنخب العربية، وأزمات السياسات الاقتصادية: «تغير نموذج “الفاعل الاحتجاجي”»، فهذا الفاعل الاحتجاجي «لم يعد المناضل الحزبي ولا النقابي، ولا أيّ من “الأشخاص المفهوميين” المنتمين للوسائط المنظمة في النسيج الاجتماعي». وإن هذا الثائر الجديد «هو، قبل كل شيء، ذو فردية مستقلة ومتميزة تجسد تفكك وتجزؤ النسق الاجتماعي العربي، ترتبط بغيرها من الذوات عبر شبكات مرنة مؤقتة، لا مركز لها ولا قيادة».
وفي مقالة كتبتْها الباحثةُ الفرنسية ماري بينيلد، في صحيفة «لوموند ديبلوماتيك» في فبراير 2011، أشارت إلى إمكان استخدام مفهوم غرامشي الشهير «المثقف العضوي»، بحيث يُعدّ «ناشطو الإنترنت» هم هؤلاء «المثقفون الجدد»؛ «فهم الذين حوّلوا معركة التغيير إلى المجال الثقافي عبر كشف الأكاذيب والخدع التي تستخدمها القوى المهيمنة سياسيًّا وثقافيًّا»، بحسب ترجمة نهى خلف في كتاب «ظاهرة ويكيليكس – المركز العربي للأبحاث».
«الفاعل الاحتجاجي الجديد» عند ولد أباه، و«ناشطو الإنترنت»، هي كلّها مصطلحات تُشير إلى نموذج جديد يتشكّل من «قادة الرأي» وساحتهم هي وسائل التواصل الاجتماعي بكل ما تتيحه من إمكانيات.
هل معنى هذا أنني فعلًا أعتقد أن وسائل التواصل الاجتماعي تعكس «الرأي العام»؟ أجيب على هذا السؤال بنعَم، ولا. فمن ناحية، الشريحة غير المشاركة في وسائل التواصل الاجتماعي هي بلا شكّ متّسعة وكبيرة. ولا تزال منظومات الإعلام التقليديّة صاحبة الفضل الأكبر في التأثير على الرأي العام. ومن ناحية أخرى، الشريحة المهتمّة بالشّأن العام والمُستتبعة لقادة الرأي؛ هي أيضًً شريحة متّسعة ومؤثّرة وتروّج الرأي. ومنظومة الإعلام التقليدية لا تستغني أبدًا عن وسائل التواصل الاجتماعي، وتعمل بكل جهودها لاحتضان نجومها والحديث عن المتداوَل فيها؛ بحيث أصبح من العادي جدًّا أن نجد نسبة لا بأس بها من الأخبار على وسائل الإعلام التقليدية بدأت أحداثها على وسائل التواصل الاجتماعي.
تبدو أحداث عام 2011 قادرة ومؤهّلة على صنع إضافات مهمّة لمفاهيم العلوم الإنسانية، وخاصّةً في مجال علم الاجتماع؛ فغير مستبعد أبدًا أن نجد بمرور الأيام مؤلّفين عرب وأصحاب كفاءات مساهمين بقوة في مجالات غير مطروقة كثيرًا مثل: علم اجتماع الثورة، علم اجتماع الإعلام. وعلى هذا أيضًا لا أستبعد أن يتم تطوير مفهوم جديد لـ«قادة الرأي» أكثر قربًا من الطبيعة التواصليّة الجديدة.