ظروف السجن والعقوبات البديلة: خطوات مؤجلة.
نُشِرَ في صحيفة التقرير الالكترونية، 19/05/2014.
يحضُر السجن أول ما يحضر بوصفه آلية عقابيّة ومؤسّسة ضبطيّة للمذنبين والمجرمين، والسجن هو في الوعي الاجتماعي سُلطة أخلاقيّة قبل أن يكون سُلطة دولة؛ سلطة أخلاقية تجد مبرّرها في تنفيذ حاجة المجتمع إلى عزل المذنبين ومرتكبي الجرائم وتحقيق النظام وإقامة القوانين المنظّمة للحياة الاجتماعية.
حين سُجِنَ الأديب الروسي دوستويفسكي في القرن التاسع عشر وسجّل تجربة سجنه في روايته «منزل الأموات»، التجربة المريرة التي جعلته يُطلق عبارته المشهورة «نستطيع معرفة مدى حضارة المجتمعات بمجرد أن نتأمل سجونها ومساجينها»، كان يتساءل بحُرقة، بعد أن لاحظ أن المساجين الذين عاشرهم بإمكانهم أن يحبّوا الحيوانات الأليفة ويربّوا الطيور لو تمكّنوا من ذلك متحدّثاً عن أثر تمكين اقتراحه هذا: «لا أعلم فعالية أخرى لها نفس التأثير على السجين من حيث ترقيق طباعهم المتوحشة وتهذيب نفوسهم الفظة، لا أدري لماذا لم يُطبَّق هذا لدينا!».
فكرة «تربية الطيور والحيوانات الأليفة بغرض تهذيب النفوس» تبدو فكرة حالمة وخالية من أي بُعد واقعي، إلا أن المثير للاهتمام في هذا الاقتراح هو ما لا يقوله: الحاجة إلى إعادة التفكير دائماً في المؤسّسة السجنيّة وآلياتها.
ثمّة أسئلة كثيرة طُرِحَت للمناقشة والتداول بعد ما يُنظَر له على أنه فشل المؤسسة السجنيّة في تطبيق أهدافها الإصلاحية، وبعد تفشّي «ظاهرة العودة إلى الجريمة» وكل الدراسات التي أحاطت بها. هل السجن هو الحل الأمثل أم أن هناك حلولاً أخرى؟ ما الهدف من السجن وما هي آليات متابعة تحقيق تلك الأهداف؟ كيف يمكن تفادي الآثار السلبيّة للسجن المترتّبة على مخالطة السجناء؟ يعبّر مثلاً عن هذا القلق وزير العدل النيوزلندي فِل جُف في 2004 بقوله: «على المدى البعيد، سيتبين أن السجون وحدها غير كافية لتقليص معدّل الجريمة، حيث سيتطلّب الأمر كذلك التفكير في أسبابها وسبل مواجهتها».
على خلاف ذلك يبدو تداوُل هذه الأسئلة في العالم العربي ضرباً من الرومانسية والخيال وسريعاً ما يُفهَم من تداولها أنه سعيٌ ساذج لإلغاء السجون وفتح لأبوابها، وإن كان من نقاش فلا بد من أن يكون حول تحسين ظروف السّجن لا حول فكرة السّجن نفسها. هناك عدّة أسباب لرسوخ هذه التصوّرات تجاه هذه الأسئلة منها: صعوبة أو استحالة مساءلة المقصّرين في إدارات السجون ومحاسبتهم، صعوبة توفُّر شفافية كافية في المعلومات الرّاصدة لأوضاع السجون، وصعوبة توجيه ضغط إعلامي مستقل للحديث عن هذه القضايا، اليأس أو الإحباط من أن تتلاشى كل هذه الصعوبات هو في المقام الأوّل المسبِّب لغضّ النظر عن أسئلة جدوى السجن.
أدّت هذه الحالة إلى نشوء عدّة اتّجاهات تُقدّم اقتراحاتها في سبيل إصلاح المؤسّسة السجنيّة ومراقبة أداء العدالة؛ وهنا أريد مناقشة اثنين من هذه الاتجاهات وعرضها. وهي تستنِد إلى التذكير بأن وظيفة المؤسسة السجنيّة إصلاحيّة أولاً وليست انتقاميّة؛ وتستند كذلك إلى أنها تدخل في حيّز المُمكن تنفيذه، فهي متجاوزة للنقاش حول جدوى السجن نفسه:
1- أوّل هذه الاتّجاهات يُطالِب بتحسين ظروف السجن ومراعاة حقوق السجين وتقديم الرعاية الكافية للمساجين.
أول الاعتراضات التي قد تطال هذا المطلب يقول: «تحسين ظروف السجن سيجعل السجين يستسهل هذه العقوبة ولا يعطي لها أي اعتبار»، رغم أن هذا الاعتراض يحاول أن يبدو «واقعياً» إلا أنه لا يستند على أي تجربة تاريخية أو دراسات تثبته. وهو ينطلِق من تقدير شخصي بحت لا بتفكير جاد ورؤية استراتيجية. بالمقابل قد يقول صاحب هذا المطلب رداً على هذا الاعتراض أنه ثبت في العديد من الدراسات (دراسة Keith Chen و Jesse Shapiro مثلاً) أن سوء أوضاع السجن يزيد من احتمالية العودة إلى الجريمة بعد الخروج منه.
ويسير هذا المطلب بخُطى هادئة محسوبة، ويحيط نفسه بالكثير من الحذر. لأنّ الحديث عن «سوء أوضاع السجون» وتعداد المتطلبات الناقصة سيُفهَم منه مباشرةً تُهَم من قبيل «تشويه سمعة الدولة» و«التحريض» وغيرها. حتى لو لم يكُن صاحب هذا المطلب منخرطاً في أي حراك سياسي.
2- تفعيل وتطبيق نظام العقوبات البديلة. ومن أشكالها: العقوبات المالية، والأساور اليدوية للمتابعة، والخدمة المجتمعية، والخدمة الحكوميّة.
وفي السعودية، كتب الدكتور تركي بن فيصل الرشيد في 2008 مقالاً في جريدة الوطن بعنوان «السجن والحلول البديلة» داعياً فيه إلى تفعيل «الحلول البديلة» وقصر السجن على «الحالات الخطيرة التي يمكن أن يكون لوجودها تهديد لأمن المجتمع». وكان المثير في مقاله نقله عن دراسة سعودية أن 52% من القضاة يرون بأن السجن أفضل وسيلة لمعاقبة المخالفين. ويتفق مع القضاة عدد من الضباط بنسبة 42.35%. رغم أن 71.43% من الاختصاصيين الاجتماعيين يعارضون السجن كوسيلة لعقاب المخالفين.
وفي أكتوبر 2011 نشرت العربية نت عن مشروع العقوبات البديلة الذي تسعى لتنفيذه وزارة العدل. ناقلةً عن مدير عام السجون في السعودية أمله في أن المشروع قد يخفّف من أعباء السجون وانخفاض أعداد السجناء إلى 50 %، مما ينعكس بدوره في التوفير اقتصادياً من ميزانية الدولة. تبنّى الكثير من المحامين التوعية بفكرة «العقوبات البديلة» ولم تتلقّى معارضةً كثيرة ونالت استحسان الكثير. غير أنها لا زالت تنتظر التفعيل الجاد من قبل وزارة العدل. ولا زال «الجلد» هو العقوبة البديلة المحبَّبة.
بلا شك أن مشاريع إصلاح المؤسّسة السجنيّة ومراجعة النُّظُم العقابية تتجاوز هذَين الاتّجاهين، منها مثلاً البرنامج الذي أطلقته البرازيل في 2012 –بغرض تخفيف ازدحام السجون- والذي يسمح للسجين بأن يخفِّف من مدة عقوبته 48 يوماً كحد أقصى كل سنة. وذلك بقراءته 12 كتاباً في الفلسفة أو الأدب أو العلوم، فقراءة كتاب واحد تعادل تخفيف أربعة أيام. والأمثلة كثيرة ومن دول مختلفة من العالم يمكنها أن تصنع سياسات ناجحة للسجن قابلة للتطبيق ومتجاوزة لكل أوهام «خصوصية بلد عن أخرى». لا يتطلّب الأمر سوى أن يؤخذ بجديّة أكثر وأن ينتبه له ضميرُ صاحب القرار.